627 ﺍﻟــﻔــﻜـــــــــــﺮ ﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻤــــــﻲ ﺑﻴــــــــــــــﻦ ﻭﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺤﺪﺍﺛﺔ ﺍﻟﺤﺪﺍﺛﺔ ﻋﺎﻣﺮ ﺧﻀﺮﻴ ﺍﻟﻜﺒﻴﺴﻲ. ﺩ. ﺃ VÉjôdG Ω2017 `` `g1438 Ω 2017 - `g1438 -» ù«ñµdg Ò N ôeéy.o.cg - ákgó G ó H Éeh ákgó G ÚH»ª«æàdG ôµødg 627 Organizational Thought During Modernism and Post-Modernism Phases Prof. Amer Khudhair Al-Kubaisi Naif University Publishing House Riyadh 2017 A.D 978-603-8116-92-0 : eoq
الفكر التنظيمي بني احلداثة وما بعد احلداثة أ.د. عامر خضري الكبييس الرياض ١٤٣8 ه ٢٠١٧ م
ح ) 201٧ م( دار جامعة نايف للنرش الرياض اململكة العربية السعودية. ص.ب 6830 الرياض: 11452 هاتف 11( 2463444 )+966 فاكس 11( 2464713 )+966 الربيد اإللكرتوين: nuph@nauss.edu.sa Copyright (2016) Naif Arab University for Security Sciences (NAUSS) ISBN 978-603 - 8116-92 - 0 P.O.Box: 6830 Riyadh 11452 Tel. (+966-11) 2463444 KSA Fax (+966-11) 2464713 E-mail nuph@nauss.edu.sa. ح ) 143٨ ه( دار جامعة نايف للنرش فهرسة مكتبة امللك فهد الوطنية أثناء النشر الكبييس عامر خضري الفكر التنظيمي بن احلداثة وما بعد احلداثة/ عامر خضري الكبييس الرياض 143٨ ه ٢١6 ص 17 24 سم ردمك: ٠ ٩٢ 8116 603 978 1 احلداثة ٢ التغري االجتامعي أ العنوان ديوي 143٨/٦٦٢١ ٣٠١ ٢٤٢ رقم اإليداع: 143٨/٦٦٢١ ردمك: ٠ ٩٢ 8116 603 978 اإلخراج الفني والطباعة: مطابع جامعة نايف العربية للعلوم األمنية الرياض هاتف: 2463444 تحويلة: 1631 / 1630 فاكس: 2460045
حقوق الطبع حمفوظة ل مجيع األفكار الواردة يف هذا الكتاب تعر عن رأي صاحبها وال تعر بالرورة عن وجهة نظر اجلامعة
املحتويات املقدمة... 3 الفصل األول: احلداثة:نشأهتا منطلقاهتا وأشهر روادها... 11 1. 1 نشأة احلداثة... 14 2. 1 خصائص احلداثة... 16.3 1 أشهر علامء وفالسفة احلداثة ومنجزاهتم... 18.4 1 خالصة الفكر احلداثي ومنطلقاته... 37 الفصل الثاين: فلسفة ما بعد احلداثة:منطلقاهتا ومفكروها... 41 1. 2 النشأة والتطور... 43 2. 2 ماهيتها ومنطلقاهتا... 44.3 2 اخلصائص اإلبستمولوجية ملا بعد احلداثة... 50.4 2 مفكرو ما بعد احلداثة... 52.5 2 أهم التوجهات الفكرية ملا بعد احلداثة... 74 الفصل الثالث: احلداثة وما بعد احلداثة: مقارنات وانتقادات... 77.1 3 أوجه الشبه بني احلداثة وما بعد احلداثة... 79.2 3 أوجه االختالف بني احلداثة وما بعد احلداثة... 82.3 3 أهم االنتقادات املوجهة إىل احلداثة... 85.4 3 ما بعد احلداثة كام يراها نقادها... 89 الفصل الرابع: الفكر التنظيمي يف ظل احلداثة... 97.1 4 منطلقات احلداثة اإلدارية وخصائصها... 99.2 4 أهم رواد احلداثة التنظيمية... 103
الفصل اخلامس: املنطلقات التنظيمية يف فكر ما بعد احلداثة وروادها... 113.1 5 متى بدأت وماذا تريد... 115 2. 5 الرؤى والتوجهات... 118.3 5 أهم رواد ما بعد احلداثة التنظيمية... 130.4 5 مالمح املنظامت يف ظل منطلقات احلداثة وما بعدها... 155 الفصل السادس: تساؤالت واجتهادات حول اإلنسان والفكر واملنظامت... 161.1 6 تساؤالت حول اإلنسان لدى الفالسفة والعلامء... 163.2 6 خالصات حول فكر احلداثة وما بعد احلداثة... 167.3 6 اجتهادات ما بعد احلداثة حول املنظامت... 172.4 6 مالمح منظامت املستقبل يف ظل ما بعد احلداثة... 175 5. 6 اخلالصة والتوصيات... 179 املصادر واملراجع... 186
املقدمة يقابل مصطلح احلداثة وما بعد احلداثة يف الفكر الغريب ما نردده يف أدبياتنا العربية عن األصالة واملعارصة مع الفارق يف الشكل واجلوهر واملوضوعات التي ختوض فيها هذه املصطلحات. لكن وجه املقارنة بينها هو تناوهلا مجيع ا مسرية التطور الفكري اإلنساين يف الكشف عن ماهية احلياة ودور اإلنسان يف فهم وتفسري الظواهر الطبيعية واالجتامعية واإلنسانية عرب بحثه عن احلقيقة التي تباينت معانيها وتعددت سبل البحث عنها لدى املفكرين والفالسفة والعلامء. فكان هذا التنوع والتعدد واالختالف سبيال إىل ما وصلت إليه البرشية من تقدم وتطور ويف الوقت نفسه سبب ا هلذا الرصاع واالنقسام حول املصالح وحول نظم وأساليب احلكم واإلدارة. وهذا الكتاب الذي نضعه بني يدي القراء وهيمنا منهم رشحية األساتذة وطلبة الدراسات العليا الذين هيتمون بالعلوم اإلنسانية واالجتامعية والسياسية واإلدارية لتعريفهم بخلفية والدة األفكار والنظريات وجذورها الفلسفية ومناهجها اإلبستمولوجية التي كانت خلفها ولتقديم نبذة موجزة عن تاريخ الفكر العلمي والفلسفي عرب القرون اخلمسة املاضية واملوضوعات والقضايا الرئيسة التي يتناوهلا رواد حركة النهضة والتنوير ثم الرواد الذين انقلبوا عليهم وباتوا يشككون يف منطلقاهتم ونظرياهتم التي كانت تعد بمثابة احلقائق املطلقة. وقد أقحمت نفيس يف إعداد هذا الكتاب»الفكر التنظيمي بني احلداثة وما بعد احلداثة«وأجهدهتا ملدة من الزمن ليس من أجل الرتويج لفكر احلداثة وما بعدها وإنام استجابة حلاجة استشعرهتا عرب جتربتي الطويلة يف تدريس طلبة املاجستري والدكتوراة مقرر فلسفة العلوم وإبستمولوجيا 3
املعرفة ونحن نعرض عليهم أسامء عرشات الفالسفة والعلامء ممن مل يسمعوا هبم من قبل واستذكرت املعاناة التي عشتها يوم كنت طالب ا يف الدراسات العليا بالواليات املتحدة األمريكية ودرست مقررات مناهج البحث العلمي وتطور الفكر اإلداري وأساليب بناء النظريات من خالل مراجعة وتتبع جذور املعرفة وموضوعاهتا لذلك سيخطئ من يظن أن يف الكتاب تروجي ا للفكر الغريب أو متجيد ا لفالسفته ومفكريه وأنا أعلم عمق اخلالف العقائدي بني حضارتنا وحضارهتم وكيف أهنم جعلوا من اإلنسان وحريته وعقله مركز االهتامم واملحور الذي تدور حوله احلياة خالف ا ملا تعرضه األديان بوجه عام وديننا اإلسالمي بوجه خاص وهي تتناول املوضوعات الوضعية كالنسبية واملادية والوجودية والظاهراتية واجلدلية وغريها. غري أن ذلك مل حيل دون ظهور فكر ناقد ووسطي ومعتدل لدهيم كام أدى إىل ظهور من يتصدى هلا وينافحها ويرد عليها احلجة باحلجة من بيننا. وما أكثر ما كتب يف هذا املجال يف أدبياتنا العربية! وأذكر عىل سبيل املثال: كتاب)القصائد الكربى بني حرية الفالسفة ويقني األنبياء 2010 م( للمفكر العريب الدكتور حممد عثامن اخلشت. وهناك العرشات من أمثاله الذين جيدر بطلبتنا الرجوع إىل مؤلفاهتم حني ال تكون لدهيم الثقافة واخللفية التي متكنهم من مواجهة هذا الغزو احلضاري عرب نافذة العقل والعلم واحلداثة وما بعدها وخاصة يف بعض أقطارنا العربية التي ال تزال دراسة الفلسفة فيها غائبة أو قارصة. ويتضمن الكتاب ستة فصول. تناول الفصل األول منها التعريف باحلداثة كحركة وفلسفة نشأهتا: منطلقاهتا وأهم روادها وتناول الفصل الثاين حركة ما بعد احلداثة: فلسفتها منطلقاهتا وأهم روادها وتناول الفصل الثالث وقفة مقارنة بني احلداثة وما بعد احلداثة ثم استعراض أهم 4
االنتقادات املوجهة إىل كل منها لتكون ضامنة وحصانة ملن تستهوهيم بعض أفكارها ومقوالت فالسفتها. أما الفصل الرابع فقد ك ر س النعكاسات فكر احلداثة عىل نشأة وتطور علم اإلدارة ونظريات التنظيم التي ظهرت مع هناية القرن التاسع عرش وبداية القرن العرشين وظهور من يدعو هلا ويبرش بوالدة حقل معريف يميزها عن بقية املعارف االجتامعية التي احتضنتها ومنها: علم السياسة وعلم االقتصاد والقانون. وتناول الفصل اخلامس وقفة نحو انعكاسات فكر ما بعد احلداثة عىل تطور وتعقد الفكر التنظيمي وتأثر بعض الرواد املعارصين الشباب بمنطلقاهتا وحماولتهم توظيف بعض مفاهيمها وتوجهاهتا يف كتاباهتم وأن سعينا للتعريف ببعضهم مع أن نتاجهم وتأثريهم ال يزال نظري ا ومل تظهر نتائجه بعد عىل السلوكيات واملامرسات التنظيمية كام حيلم هؤالء. وختم الكتاب بالفصل السادس عرضت فيه أهم اخلالصات والرسائل املوجزة التي أردنا إيصاهلا إىل القراء عل ها تكون قاعدة معرفية عام توصل إليه الغربيون وهم ي نظ رون ويفرسون وخيتلفون حول فهم اإلنسان وعقله ومعرفته وصلته بالعامل املحيط وبمؤسساته وسبل بنائها وإدارهتا وتطويرها وكيف جعلوا من اختالفهم ومدارسهم الفلسفية والعلمية مدخال للحوار ومنهج ا للبناء وفضاء للتنافس بحث ا عن احلقيقة وسعي ا نحو تطوير حياهتم ومغالبة اآلخرين ممن آثروا الكسل والركود أو النقل واالعتامد عىل اآلخرين. وقبل امليض يف عرض فصول الكتاب رأينا من الروري إعطاء تعريفات موجزة للمصطلحات الثالثة التي وردت يف عنوانه لتسهل عىل 5
القارئ غري املتخصص وغري املتابع هلا بامليض يف مواصلة القراءة والتعمق يف أبعادها. وعىل الرغم من تباين وجهات النظر حول قدرة التعريفات القصرية عىل احتواء واستيعاب املضامني الكبرية ملثل هذه املفاهيم واملصطلحات فإن ما ال ي درك كله ال يرتك جله وسيجد القارئ يف فصول الكتاب ما يشفي غليله حوهلا مع أن أنصار ما بعد احلداثة ال يودون إعطاء أي تعريف حمد د هلا ( 2001.)Farmer, احلداثة وفكرها»Modernism«مصطلح غريب يعرب عن القرون اخلمسة لعرص النهضة وما ساد فيها من فكر فلسفي ونتاج علمي وتطور تكنولوجي أماط اللثام عن العصور األوربية املظلمة بعد أن أصبح للعقل حريته وأدى العلامء واملفكرون والفالسفة دورهم يف توليد املعرفة فتولدت املذاهب الفلسفية املختلفة وبرزت منها العلوم الطبيعية ومن ثم اإلنسانية واالجتامعية املتعددة وتقدمت أساليبها وأدوات التحليل والتعليل وبناء الفرضيات ثم النظريات التي اكتسبت القداسة عند أصحاهبا وظن هؤالء أن العقل هو امل ع و ل عليه يف التفسري والتحليل وحل املشكالت ويف حتقيق التقدم للمنظامت والدول واملجتمعات. وكان من بني املعامل الرئيسة ملرحلة احلداثة تبني روادها فكرة العلمنة والفصل بني املعرفة الدينية واملعرفة الفلسفية ومتييزها عن املعرفة العلمية وجعلت لكل منها دائرهتا ووظيفتها ومع قناعتها بوجود التداخل والتكامل يف معارفها فإن لكل منها مناهجها وخطواهتا ومؤسساهتا األكاديمية التي ت عنى هبا. 6
كام سادت خالل مرحلة احلداثة فكرة اخلطية والرتاكمية والقناعة وبأن مسرية الزمن تتقدم إىل األمام وأن العقل ونتاجه يسريان بنا دوم ا إىل التغيري من احل سن إىل األح سن ونحو التحديث والتأصيل. ويف ضوء هذه املنطلقات يدعي أنصار احلداثة: بأن التقدم التكنولوجي ومعطيات الثورة الصناعية وخمرجاهتا ترتادف وترتافق مع معدالت التنمية االقتصادية لتصب يف إدامة احلياة االجتامعية واملؤسسية ومتكني اإلنسان من استغالل ثروات الطبيعة ومواردها إلشباع الرغبات وسد االحتياجات وإسعاد البرشية أينام كانت عرب هذه القارات حني تصبح احلداثة طريقهم ونمط عيشهم. ما بعد احلداثة وفكرها»Post-Modernism«لقد تباينت اآلراء حول حتديد سنوات انطالق مابعد احلداثة فمنهم من يرجعها إىل العقد األخري من القرن التاسع عرش ويرجعها آخرون إىل العقود األوىل من القرن العرشين. غري أن هناك اتفاق ا عىل تسارع حركتها وفاعليتها بعد احلرب العاملية الثانية وأن فكرها تفجر بعد النصف الثاين منه. ويرجع ذلك إىل اختالف انطالقتها يف بعض امليادين احلياتية كالتصميم والعامرة واهلندسة املدنية ومن ثم يف األدب والفن وبعدها وصلت إىل العلوم اإلنسانية واالجتامعية حتى أصبحت اليوم تغزو كل فروع املعرفة بال استثناء. وإن مولدها احلقيقي يف أي ميدان عميل أو حقل ختصيص بدأ مع مرحلة النقد والتشكيك التي تعرضت هلا املعرفة النظرية والتطبيقات املؤسسية ملا أورثته مرحلة احلداثة والدعوة إىل سحب البساط من حتت نظرياهتا وادعاءاهتا وعمومية فرضياهتا واالدعاء بصالحيتها لكل الظروف املكانية والزمانية فيتمخض عن هذا الرفض لرتاث مرحلة احلداثة برادايم جديد 7
لكشف نقاط الضعف ومواطن االنحراف والعجز ويدلل عىل ذلك بالفشل الذريع الذي انتهت إليه نظريات احلداثة وتطبيقاهتا يف خمتلف جماالت احلياة وفروع املعرفة التي تناولتها عىل مدار القرون األربعة التي سبقت القرن العرشين. وينسب أنصار حركة ما بعد احلداثة هذه األزمات والتحديات والتهديدات واحلروب التي تعاين منها البرشية اليوم إىل ذلك الرصاع الفلسفي واأليديولوجي وإىل هذا التنافس اجلنوين بني القارات وبني النظم واحلكومات عىل تقاسم الثروات. ولذلك نشأت حركة ما بعد احلداثة كردة فعل لفكر احلداثيني والواقع الذي نجم عن تطبيقاته وما رافقه من خيبة أمل لدى الشعوب ومن يأس وإحباط لدى الشباب واملفكرين الرافضني لرتاثها والواثقني من قدرهتم عىل إسقاطها. والذي يميز أنصار ما بعد احلداثة تواضعهم يف طرح آرائهم وأفكارهم فهم ال يفرضوهنا عىل اآلخرين كام أهنم ال يد عون العصمة والقداسة هلا ويرتكون األبواب مرشعة للنقاش واحلوار ويكفيهم إنجاز ا أهنم ألقوا حجر ا وسط ذلك الكم من النظريات الكبرية التي سعت احلضارة الغربية إىل تقديسها بينام يسعى أنصار ما بعد احلداثة إىل إذابتها ويفتحون األبواب مرشعة إلنضاج بدائلها ومع أهنم قطعوا شوط ا يف مسريهتم إال أن الطريق أمامهم ال يزال طويال وقد يكون عسري ا. الفكر التنظيمي ونظرياته ThoughtOrganizational يشمل هذا املصطلح كل ما أنتجه ونرشه الرواد األوائل الذين أرسوا القاعدة النظرية األوىل لعلم اإلدارة ومنظامهتا عرب حركة اإلدارة العلمية والنظريات البريوقراطية التي عايشت مرحلة احلداثة وتأثرت بفلسفتها ومنطلقاهتا وباتت ت وصف اليوم بالفكر التنظيمي التقليدي. 8
كام يشمل املدارس والنظريات التي أعقبت احلرب العاملية الثانية وكانت بمثابة ردة الفعل للفكر التقليدي ونظرياته ومبادئه ويف الوقت نفسه تأيت تعبري ا عن تأثر أصحاهبا بمالمح ومنطلقات فكر ما بعد احلداثة الذي شاع وانترش منذ النصف الثاين من القرن العرشين. وال تزال جهود املختصني يف هذا احلقل تبذل وتتواصل لطرح نظريات جديدة وبديلة استجابة ملنطلقات العوملة واحلوكمة والفكر التنموي املستدام وفلسفة ما بعد احلداثة. وقد حرصنا عىل التعريف بأهم رواد الفكر التنظيمي التقليدي )احلداثي( وبمبادئهم ونظرياهتم متهيد ا لعرض رواد الفكر التنظيمي ملرحلة ما بعد احلداثة. وسيجد القارئ عرب فصول هذا الكتاب أوجه الشبه واالختالف بني املدرستني واالنعكاسات التي جسدت هذا التباين يف مواقفهم ونظرياهتم. 9
الفصل األول احلداثة: نشأهتا منطلقاهتا وأشهر روادها
. 1 احلداثة : نشأهتا منطلقاهتا وأشهر روادها ليس هناك شهادة ميالد متفق عليها تؤرخ لنشأة فلسفة احلداثة ولذلك ظلت نشأهتا وبدايتها موضع ا الجتهادات الفالسفة والكتاب الذين كتبوا عنها واختلفوا يف تاريخ انطالقتها. فهناك من يرجعها إىل عام 1453 م حني اكتشفت املطبعة من قبل غوتنربغ فأتيح للمعرفة وكتبها أن تنترش لتعرب عن اآلراء واألفكار بال قيود وموانع. ويرجعها آخرون إىل عام 1492 م باكتشاف كريستوف كولومبس قارة أمريكا وسحب البساط من القارة التي كانت ت عت رب املرجعية املعرفية للمسيحيني الكاثوليك واألرثوذكس. ويوجد من يرجع نشأة احلداثة إىل عام 1650 م حيث بدأ الفالسفة والعلامء عىل التجرؤ وابتداع املعرفة واحلقائق ويد ع ون اليقني املطلق هلا دون الرجوع إىل قداسة مصادرها امليتافيزيقية عرب النقل والتوارث التي كانت الكنائس املسيحية تروج هلا.)برينتون 2004 م(. وقد يستدعي التعريف بنشأة احلداثة اإلشارة الرسيعة إىل املرحلة التي سبقتها وسميت اصطالح ا باملرحلة التارخيية املظلمة التي سادت أوربا عموم ا وشاعت خالهلا األساطري واخلرافات وتفسريات الكهنة ورجال الكنائس وطقوسهم التي انتهت بحركة اإلصالح الديني الربوتستانتي بداية عام 1517 م وكان الراهب األملاين مارتن لوثر ( 1483-1564 م( قد أطلق رشارهتا األوىل بعد رفضه صكوك الغفران التي كان يصدرها البابا ورجال الكنيسة الكاثوليكية ويبتزون هبا الناس.) دالوري 2010 م(. 13
1. 1 نشأة احلداثة ليس غريب ا أن تعد نشأة احلداثة بمثابة الثورة عىل كل ما كان و ما هو كائن وأهنا أعادت النظر يف معطيات احلياة ولكن برؤية غربية. وألن هذه االجتاهات والرؤى احلداثية تباينت يف شدهتا ويف اعتداهلا فقد عد ها البعض انفجار ا معرفي ا مه د الطريق للطاقات الذهنية الكامنة لتتفجر وللشهوات وامليول لتتحرر ولألفكار واإلبداعات لتتصارع فظهرت أشكال غري مألوفة وبدائل وتكوينات ومصطلحات غريبة مل تعرف ومل تطبق من قبل. وقد عد ها البعض اآلخر وخاصة أولئك الذين نظروا إليها من خارج املجتمعات الغربية مترد ا عىل كل ما هو ديني وأخالقي بل وما هو تارخيي وتراثي وثقايف. ولذلك ليس من املوضوعية واملنطق أن تتوحد آراء الناقدين وآراء املؤيدين التي قيلت عن احلداثة بعبارات موجزة متفق عليها. وإن مصطلح احلداثة كبقية املصطلحات الكبرية التي أحدثت مفاهيم ها هزة يف تأريخ البرشية وطرحت أنساق ا بديلة لسابقتها سيظل موضع نقاش وجدل. لكن الذي ال خي تلف عليه هو أن احلداثة التي كانت باألمس حركة جتديدية وحتديثية فارقة يف كل ما طرحته قد حتولت اليوم إىل حمطة النطالقة جديدة نحو التغيري وإلثراء البحث عام هو أفضل منها إن مل يكن عام هو مناقض أو رافض لكل ما سبق أن طرحته من أفكار واجتاهات وقيم تطرح اليوم حتت مصطلح ( ما بعد احلداثة(. )دالوري 2010 م(. وعليه فإن مرحلة ما قبل احلداثة أصبحت تطلق اليوم عىل العصور الوسطى الواقعة ما بني القرن اخلامس والقرن اخلامس عرش امليالدي وخالهلا كانت أوربا تغط يف ظالم دامس مدة عرشة قرون وكان املسلمون 14
خالهلا يديرون مدارسهم وجامعاهتم يف بغداد والشام والقاهرة ويف غرناطة وقرطبة وتونس وإليها كان يتوجه طالبو العلم واملعرفة من كل ح د ب وصوب. أما مرحلة احلداثة فتطلق عىل القرون التي أعقبت العصور الوسطى وبدأت بانتهاء القرن اخلامس عرش وامتدت قرابة أربعة قرون ليرتاجع زمخها مع بداية النصف الثاين من القرن العرشين امليالدي. وعلمي ا وفلسفي ا بدأت مرحلة احلداثة مع اكتشافات ونظريات البولندي كوبرنيكوس ) 1543-1473 م( ثم اإليطايل غاليو ) 1642-1564 م( ثم اإلنجليزي إسحاق نيوتن ) 1727-1642 م(. وفلسفي ا ترجع رشارهتا األوىل للفيلسوف الفرنيس ديكارت ) 1650-1596 م(. ثم اإليرلندي باركيل ) 1753-1685 م واألملاين كانت 1804-1724 م(. وأما احلداثة يف أبعادها السياسية والقانونية واإلدارية فقد أرسى جذورها اإلنكليزيان: توماس هوبز ) 1679-1588 م( وجون لوك ) 1704-1632 م( ثم املفكرون الفرنسيون: منتسكيو ) 1755-1689 م( وفولتري ) 1778-1694 م( و روسو) 1778-1712 م(. ويف ظل القرون األربعة التي عاشتها أوربا ثم أمريكا وخالل الفرتة ما بني القرن السادس عرش والقرن العرشين ظهرت هناك ثورة دينية وفكرية وعلمية وفلسفية شملت كل ما هو كائن وشائع يف تلك املجتمعات وأسهمت يف إحداث التغيري اجلذري وطرح البدائل اجلديدة ألنامط التفكري والعيش وتفسري الظواهر الطبيعية واالجتامعية والسياسية وإقامة النظم احلكومية واإلدارية واالقتصادية التي ال تزال بعض مظاهرها ونظرياهتا وتطبيقاهتا موجودة ومنترشة يف كثري من أقطار العامل. وخالل هذه املرحلة ظهرت 15
الثورة الزراعية والثورة الصناعية وانطلقت بدايات الثورة التكنولوجية التي انتهت بصنع القنبلة الذرية خالل احلرب العاملية الثانية. 2. 1 خصائص احلداثة أما أهم التيارات واخلصائص التي متيزت هبا مرحلة احلداثة عن املراحل التي سبقتها يف العصور املظلمة فهي كثرية ومتنوعة بحكم القرون األربعة التي سادت خالهلا واتساع الرقعة اجلغرافية التي ترعرعت فيها بني قارتني مهمتني لكننا سنكتفي باألهم من هذه اخلصائص لتكون قاعدة للمقارنة بينها وبني املرحلة التي أعقبتها والتي نحن بصددها. وفيام يأيت أهم ما نادت به احلداثة وما حققته فعال ( مصطفى 2011 م سبيال 2006 م( ( املسريي 2009 م( : اهتاممها الكبري بالعلم اآليل وتطبيقاته العملية التي مكنت اإلنسان من السيطرة عىل البيئة ومواردها لزيادة الرخاء والرفاهية. تعزيز الرؤية العلامنية»Secularism«واحلرية الشخصية بفصلها الدين عن الدولة ما أفقد الدين املسيحي مركزيته يف املجتمعات الغربية. إضفاء العلمية عىل املنهجني: التجريبي واحليس ودور احلواس كأهم مصادر املعرفة القابلة لالختبار فأبرزت دور اإلبستمولوجيا )نظرية املعرفة( بديال للفلسفة األنطولوجية. التأكيد عىل دور العقل يف توليد املعرفة وتشكيل الوجود لتظهر الفلسفة املثالية بوصفها رديف ا للفلسفة املادية ثم ظهور الفلسفة اجلدلية املعارصة التي بدأت مع هيغل. 16
تعظيم دور الطبيعة وأفول ما وراء الطبيعة واعتامد الفلسفة الوضعية بوصفها منهجية يف بناء احلقائق املعرفية للعلوم املعارصة وعربها ثم بناء التكوينات واألطر الوضعية لتناهض البنى واملؤسسات الدينية والتقليدية واعتامد العقالنية منهج ا للتحليل. بروز مذهب االسمية»Nominalism«الذي ينكر وجود التطورات املجردة يف األسامء ال غري مثل: الرشف األخالق اجلامل... إلخ. فهذه ليس هلا وجود مادي تتعلق به األسامء. واالسمية جتعل املفاهيم اإلهلية واملسيحية املطلقة بال معنى فتوافقت مع املادية واملذهب التجريبي. كام شاعت خالهلا الر شدانية والعقالنية عند مناقشة القضايا االجتامعية أو اإلنسانية وكأهنا حتولت إىل مرشوع للتمدن والتحر والتحرر والتصنيع. وخالهلا حظيت الوضعية باالهتامم يف تراكم املعرفة لتفسري األشياء والظواهر ويف بناء املؤسسات البريوقراطية ونظم االتصال اجلامهريي وبناء الدول القومية ملواجهة التقلبات واألزمات االقتصادية. وقد بدأ التفكري يف التنظيامت يتسع ويتخصص عىل غرار حقول املعرفة األخرى. وهنا أكد أنصار احلداثة أن اإلنسان مل يعد خالهلا ينظر إىل نفسه عىل أنه ابن الطبيعة أو ابن القوى اخلارقة بل هو خيلق ويطور ذاته بذاته. لقد كان زمن احلداثة ضاغط ا ومتسارع ا يف أحداثه وأفكاره وغني ا برواده ومفكريه. فام بني فيلسوفها ديكارت الذي طرح بذرهتا وفيلسوفها هيغل الذي اكتملت عنده صورهتا كان هناك العرشات من الفالسفة الذين 17
أسهم ك ل منهم يف مرحلته ويف ميدانه يف إنضاج عرص احلداثة بل إن األواخر منهم من أمثال هيغل ونيتشه قد يعدان حلقة الوصل بني احلداثة وما بعدها لكوهنام نقال السؤال الفلسفي من املاهوية وامليتافيزيقية إىل واقع احلياة القيمي وشككا بام قيل عن احلقيقة الفلسفية لدى األوائل. 3. 1 أشهر علامء وفالسفة احلداثة ومنجزاهتم وبعد تعريف القارئ باألفكار الرئيسة واملنطلقات املهمة التي شهدهتا مرحلة احلداثة آثرت الوقوف عند أهم روادها ورجاهلا وتلخيص أهم ما قالوه وبأسطر قليلة فاخرتت ما يقرب من عرشين أو يزيد قليال عن ذلك من أهم روادها عىل الرغم من أهنم أكثر من ذلك بعرشات املرات مستعين ا بكثري من املوسوعات العلمية واملراجع ذات العالقة )احلاج 2000 م اجلميل 2004 م(. وقد اجتهدت يف اختيار هؤالء ليمثلوا القرون األربعة التي تعاقبوا عليها من ناحية وكذلك ليمثلوا ختصصاهتم املعرفية والعلمية املتعددة ناهيك عن كوهنم يتوزعون أو ينحدرون من األقطار التي عاشت مرحلة احلداثة فكان منهم اإليطايل والنمساوي والفرنيس والربيطاين واألمريكي فهم عىل الرغم من تنوعهم وتعددهم فقد تكاملت أعامهلم أحيان ا وتعارضت رؤاهم يف أحيان أخرى لكنهم أسهموا مع ا يف تنوير العقل البرشي وإنقاذه من تلك األساطري واخلرافات التي سادت مرحلة العصور املظلمة يف أوربا وفتحت األبواب لعرص النهضة. ونود هنا اإلشارة إىل أن ما أوجزناه يف هذه الصفحات عن كل منهم ي عد بمثابة القطرات والعبارات التي ال تعرب بالرورة عن مسريهتم لكن 18
ما ال يدرك كله فقد ينفع جزؤه. وننصح الطلبة والدارسني برورة االنتقاء من بينهم من يرونه أكثر قرب ا وأشد صلة بتخصصهم العلمي أو فلسفتهم أو رؤيتهم املعرفية فبدون الغوص يف تارخيهم واخرتاق عاملهم قد يصعب وال نقول يستحيل عليهم إدراك ما تعنيه مرحلة احلداثة أو استيعاب منطلقاهتا وإدراك اخللفية التي انطلقت منها. وقد آثرنا عرضهم وفق ا ألقدمية سنوات الوفاة وليس امليالد لتباين أعامرهم وقد متت االستعانة بالكتب املوسوعية واملؤلفات العلمية التي تناولتهم للتعريف بمنجزاهتم. اإليطايل نيكولو مكيافييل Machiavelli( )Niccolò ) 1527-1469 م( مؤلف كتاب األمري عام 1513 م الذي ن رش عام 1532 م أي بعد وفاته. كان م ن ظ ر ا وسياسي ا إبان عرص النهضة وع رف بمبدأ الغاية تربر الوسيلة ليقول: إن كل ما هو مفيد فهو رضوري وعميل وصحيح أيض ا لذلك ع د املؤسس أو الغارس لبذرة الفلسفة النفعية والواقعية السياسية. وهو يرى أن القوة املحركة للتاريخ هي املصلحة املادية واحلفاظ عىل السلطة وأجاز بل دعا إىل قمع االضطرابات الشعبية. وكتابه يعد هدية للحاكم الذي سجنه ثم واله منصب ا سياسي ا مهام. وال يزال البعض من السياسيني يتأثرون بمقوالته حتى يومنا هذا كام عده البعض أول منظر حداثي يف العلوم السياسية ونظم احلكم. دعا يف كتابه إىل إقامة جيش وطني وحتاشى االستعانة باملرتزقة ألن النقود هي مههم. ويرى أن الناس ناكرون للجميل متقلبون مر اعون وميالون لتجنب املخاطر ولذلك دعا احلكام إىل اجلمع بني حب الناس وخوفهم منهم ليكونوا م هابني ويف الوقت نفسه خميفني وإذا صعب اجلمع بينهام فاألفضل أن خيافوهم. 19
البولندي نيكوالس كوبرنيكوس Copernicus( )Nicolaus ) 1543-1473 م( كان عامل ا رياضي ا وفلكي ا و طبيب ا وقد ألف كتابه:»يف ثورات األجواء الساموية«الذي يكشف فيه وألول مرة ثبات الشمس وحركة األرض حوهلا رافض ا نظرية بطليموس القائلة بمركزية األرض. غري أن الكنيسة املسيحية منعته من البوح بأفكاره أو نرش كتابه الذي أخفته وحفظته يف مكتبة الفاتيكان حتى عام 1822 م وقد عد املؤسس لعلم الفلك وكانت أفكاره الفلكية والعلمية املنطلق لتحول أوربا إىل مرحلة النهضة والتنوير. الربيطاين فرانسيس بيكون Bacon( 1626-1561()Francisم( فيلسوف بريطاين دعا إىل مناهج بحث جديدة من أجل تقدم العلوم بعد أن ثبت عجز الفلسفة التقليدية ومناهج بحثها النظرية عن تقدم اإلنسان فطرح منهجه التجريبي القائم عىل االستقراء من أجل استخراج القاعدة العامة أو النظرية العلمية من مفردات الوقائع املالحظة من التجارب واملعرفة التي يدعوها بالقوة لتحسني حياة البرش. واستحصال املعرفة عنده يبدأ بالتجربة احلسية وإثرائها باملالحظات والتجارب العلمية وصوال إىل النتائج. وقد رفض االستنباط الذي يقترص عىل االشتقاق من قاعدة ال يعتد هبا. واشرتط لذلك تطهري العقل من كل األحكام واألوهام السابقة واملوروثة واعتامد اخلربة والتجربة ومنهج االستقراء وصوال إىل املعرفة العلمية بعد مجع األمثلة وتنظيمها وحتليل أبعادها. ويقول بيكون: إن السيطرة عىل الطبيعة ال تكون إال باإلذعان هلا والتحكم بالطبيعة البرشية ال يأيت إال من االستسالم هلا أو بوضعها باحلسبان عىل األقل. وهو القائل: إذا بدأ اإلنسان بقناعات فسيصل إىل شكوك أما إذا بدأ بشكوك فسيصل إىل قناعات. من مؤلفاته: النهوض باملعرفة والوسيلة اجلديدة «Nouvm 20
Organum» عام 1620 م ألن املنهج القديم أبقى العلم راكد ا لتأيده عىل املعرفة النظرية. أما منهجه فيؤذن بالثورة الصناعية. ومنه اشتق ديكارت مذهب الشك واشتق الفالسفة األخرون أمثال: هوبز ولوك وهل وسبنرس املنهج التجريبي. اإليطايل جاليليو جالييل Galilei( )Galileo ) 1642-1564 م( وهو العامل الفلكي والفيلسوف والفيزيائي الذي نرش نظرية كوبرنيكوس وأثبتها ودافع عنها وصحح نظرية أرسطو حول احلركة بني األجرام وقد نادى بأمهية منهج التجريب وطرح فكرة النسبية وسقوط األجسام وصنع منظاره ذا العدستني بنفسه لريى القمر وأرضه ومرتفعاته وأوضح أن للكواكب أقامرها مثل القمر الذي يدور حول األرض. وقد تعرض هو اآلخر هلجوم الكنيسة والهتاماهتا له بالكفر فدافع عن نفسه وأفلت من العقاب بعد أن أنكر بعض أفكاره وتظاهر بعدم نسبتها إليه وتعهد أيض ا بعدم نرشها. وبعد 16 عام ا عىل سكوته متت حماكمته وسجنه ثم خفف السجن إىل اإلقامة اجلربية من قبل الكنيسة. وقد أسامه العامل أينشتاين بأنه أبو العلم احلديث. الفرنيس رينيه ديكارت Descartes( )René ) 1650-1596 م( وهو مؤسس مذهب الشك يف الفلسفة لكن شكه كان يبحث من خالله إىل اليقني ومن خالل فلسفته املثالية التي تدعو إىل التفكري وتوظيف العقل دعا إىل إعادة تشكيل املعرفة قطعة قطعة. وهو القائل:»أنا غري موجود لكن طاملا أفكر فأنا موجود«. وقد عده البعض أبا الفلسفة احلديثة لتجاوزه باملثالية لفلسفة أفالطون. وكان ديكارت يؤمن بوجود األفكار الفطرية يف 21
عقل اإلنسان وهي سابقة عىل املعرفة احلسية والتجريب. ولذلك خالفه من جاء بعده وسموا أنفسهم بغري الفلسفة املثالية التي أرسى منطلقاهتا. اإلنجليزي توماس هوبز Hobbes( )Thomas ) 1679-1588 م( لقد دافع هوبز عن السلطة املطلقة للملك واحلاكم يف عرصه حني اشتد رصاعه مع الربملان ضامن ا لوحدة النظام االجتامعي. غري أنه خالف ديكارت بقوله: إن املعرفة تبدأ باحلس وأن أفكار العقل تأتيه عىل دفعات عرب احلواس. وأنكر هوبز أن يكون لإلرادة احلرة مكان فهي ليست موهبة هلا وجود مستقل بل هي جمرد رغبة تقابل النفور وألهنا كذلك فهو ال يعرتف هبا لعدم إمكان إثباهتا باحلواس. وألن هوبز آمن باإلنسان كرشير بطبعه فإنه يرى قيام احلكومة واستمرارها رضورة ومصلحة لإلبقاء عىل روح اجلامعة لكن عىل احلكومة أن تطبق وتعرتف بدين شعبها الذي حتكمه. وقد حذر من القوة اخلفية التي يلفقها العقل أو تطورها األقاصيص ومع ذلك فقد كان ر بوبي ا ال ملحد ا عىل الرغم من تأكيده عىل دور املالحظة اإلمربيقية. اإلنجليزي جون لوك Locke( )John ) 1704-1632 م( ويعد من رواد الفلسفة التجريبية واحلسية وهو مؤلف كتاب:»احلكومة املدنية«وكتاب:»العقل البرشي«. وقد حدد لوك وظيفة الدولة بحامية الثروة ومحاية احلريات وطالب الشعب أن يراقبها ويسعى إىل تغيريها إن أخلت بواجبها وي عترب معارض ا للفكرة املثالية القائلة بوجود األفكار الفطرية يف العقل فاألفكار عنده تكتسب باحلواس والتجريب وليس بالفطرة. 22
اإلنجليزي إسحاق نيوتن Newton( )Isaac ) 1727-1642 م( عامل فيزيائي وريايض ا شتهر بنظريته حول اجلاذبية الكونية ومهد الطريق لقوانني احلركة وعلم احلساب التفاض يل كام أثبت أن الضوء األبيض هو مزيج من عدة أضواء وأن الضوء يتكون من جزيئات كام برهن عىل احلركة األرضية وحركة األجرام الساموية وأرسى بعض القوانني الطبيعية. وألفضاله العلمية فقد و ضع قربه يف مبنى ويستمسنرت بلندن. اإليرلندي جورج بريكيل Berkeley( )George ) 1753-1685 م( الفيلسوف املثايل الذي حاول إضفاء العقالنية عىل الفلسفة بدعمه للمثالية القائلة: بأن املادة ليست إال صورة عقلية وأن احلقيقة الوحيدة هي التي يفرزها العقل. يعد باركيل من الفالسفة احلداثيني القالئل الذين آمنوا باهلل عىل أنه الفاعل األوحد وأن العامل بأرسه هو جتل له ورمز ولغة. وقد عرب عن ذلك من خالل مؤلفاته ومنها: حماولة لنظرية جديدة للرؤية عام 1709 م ورسالة يف مبادئ املعرفة البرشية 1710 م وهو يرى أن أفكارنا ال نجدها بأنفسنا بل تأتينا من مصدر مستقل ومن روح خارجية. الفرنيس مونتسكيو )Montesquieu( )1689-1755 م( هو مؤلف كتاب:»روح القوانني«الذي نرش عام 1748 م والذي نادى فيه بالفصل بني السلطات فعد أول وثيقة يف علم االجتامع السيايس ليحدد فيه أنظمة احلكم الثالثة التي تصف ما هو كائن: امللكية الدكتاتورية اجلمهورية. لكنه يرى أن الديمقراطية هي األمثل ملا ينبغي أن يكون. وقد كانت أفكاره مصدر ا مهام عند صياغة الدستور األمريكي وعند كتابة اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان. 23
الفرنيس فرانسوا ماري أوريه»فولتري«Marie( François )AROUET -1694( 1778 م( عرف عنه مناداته بنقل احلكم من اإلقطاعيني أصحاب األرايض واملزارع ومن املقربني من الكنيسة إىل الطبقة الربجوازية األكثر معرفة واألقدر تفكري ا وقد نرش مؤلفاته يف التاريخ و األدب والدين والفلسفة. وقد اهت م باإلحلاد لقوله:»إذا كان اهلل غري موجود فمن الروري أن نخلق واحد ا«لكن اإليامن عنده مرتبط بالعقل وآمن بوحدة الوجود القائمة عىل العقل واحرتام الطبيعة. السويرسي جان جاك روسو Rousseau( )Jean-Jacques ) 1778-1712 م( هو صاحب نظرية العقد االجتامعي التي رشحها يف كتابه:»العقد االجتامعي«1762 م وهو املهتم بالرتبية والتنشئة لألطفال منذ نعومة أظفارهم ورشح ذلك يف كتابه:»إيميل«. وقد رفض نظرية احلق والتفويض اإلهلي االستبدادية لصالح قيم املجتمع املدين احلر الذي يشارك اجلميع يف إدارته. وقد عد امللكية بوجه عام وملكية األرض بوجه خاص عامال سلبي ا عرب التاريخ ألهنا تولد الالمساواة وتؤدي إىل الرصاع واالستغالل كام نقد بعض األحزاب حني ال تسهم يف بلورة اإلرادة العامة وتعد أفكاره السياسية جديرة بالتعمق عىل الرغم من قدمها. 24
اإلسكتلندي آدم سميث Smith( )Adam ) 1790-1723 م( فيلسوف وباحث اقتصادي ومؤلف كتاب:» ثروة األمم«الذي يعد من أشهر ما ك تب عن الرأساملية االقتصادية املعارصة حيث أمىض عرشين عام ا يف كتابته. وقد أصبح أستاذ ا يف سن السابعة والعرشين بجامعة كالسكو ليدرس املنطق والفلسفة والعواطف األخالقية. اختلف حول إيامنه وهو يكتب عن الكون والطبيعة واليد اخلفية لكنه نادر ا ما ذكر اهلل يف مؤلفاته بينام بالغ يف إعجابه بالطبيعة. وتتلخص نظريته االقتصادية يف قوله: إن كل دولة متلك القدرة عىل إنتاج سلعة أو مادة بكلفة أقل من باقي الدول األخرى وعليها أن تتبادل هذه املنتجات فيام بينها ليعم الرخاء ولذلك يدعو إىل كرس احلواجز أمام انتقال السلع وأن كل دولة ينبغي أن ختتص يف إنتاج السلع التي متتلك فيها امتياز ا عىل غريها و تستورد السلع األخرى من الدول صاحبة التميز فيها وهو بذلك يدعم مبدأ التخصص والتقسيم يف العمل ويؤمن بحرية انتقال السلع. ويرى أن سعي األفراد إىل حتقيق مصاحلهم الشخصية سيسهم يف حتقيق مصالح جمتمعاهتم حتى لو مل تكن هذه من نواياهم فاليد اخلفية تقودهم إىل غاية مل تكن يف حسباهنم وهو بذلك يدافع عن الرأساملية واحلرية الفردية. األملاين إيامنويل كانت Kant( )Immanuel ) 1804-1724 م( هو رائد املثالية املعدلة يف عرصه ومؤلف كتاب:»نقد العقل املحض«وكتاب:»الدين يف حدود العقل وحده«فالوجود عنده هو الذي يشكل العقل لكنه حاول أن جيد طريق ا وسط ا بني الفلسفة العقالنية القائلة: بأن العقل وحده يدلنا عىل املعرفة والفلسفة التجريبية القائلة: إن املعرفة تكتسب بالتجربة وحدها. فقال كانت رأيه التايل: إن استبطان العقل دون 25
تطبيقه وإخضاعه للتجربة يقود حتام إىل الوهم. وإن التجربة وحدها ستكون ذاتية وجمردة من الوجود األويل املتضمن حتت العقل املجرد. وفرضياته يف اإلدراك احليس نرشها يف نقد العقل املجرد الذي ال يعرف إال الظواهر الطبيعية وال ينفذ إىل حقائق األشياء ذاهتا. واملعرفة النظرية عنده هي معرفة ما يكون. أما املعرفة العقلية فهي التي تصور ما جيب أن يكون. وبذلك عاد كانت لإليامن بالعقائد وعدها بشكل مستقل وجمرد عن العقل النظري. ومع إعالنه عن اإليامن باهلل إال أن هناك من يرى ذلك ادعاء و خوف ا ألنه يشرتط الربهنة العقلية يف مثاليته باستثناء إيامنه لذلك يعد أكثر الفالسفة غموض ا يف رؤيته اإلبستمولوجية للمعرفة. األملاين فريدريك هيغل Hegel( )Friedrich ) 1831-1770 م( هو فيلسوف اجلدل والفلسفة التطويرية لربط العلم بالفلسفة وقد تقلب يف أفكاره وتطورت آراؤه ما بني املادية و املثالية فالوعي عنده سابق للامدة وهو صاحب ثالثية اجلدل لكي تلتقي الفكرة األوىل Thesies بنقيضها Antithesis لتتكون منها الفكرة الثالثة.Synthesis ومع إيامنه بالتطابق والوحدة فإنه جيد التعارض داخلها والعقل وحده هو الذي يغوص فيها ويطورها. ويعد هيغل األشد تأثري ا يف الفكر والفلسفة اللذين سادا يف القرنني التاسع عرش والعرشين ألنه قلب النظر يف التاريخ واملجتمع والدولة من خالل كتابه يف علم املنطق الذي نرشه عام 1812 م يف ثالثة جملدات وكتابه فلسفة القانون ومن خالهلام هاجم الفلسفة العقلية اخلالصة والفلسفة التجريبية لكوهنام تغفالن سامت الواقع وتقرصانه عىل صفات حسية حمددة. ويرى أن النفي والتناقض مها اللذان يدفعان كل موجود إىل ختطي وجوده. وطرح نظريته السياسية للدولة واألمة وعدها هناية التاريخ 26
جمسد ا فيها فكرة احلداثة السياسية. وقد أسهم يف تأليه الدولة التي تتجسد فيها العناية اإلهلية وفيها جيد الفكر صريورته وجيد اإلنسان حريته وهي الشكل األقرص لتحقق الروح ولذلك دعا إىل التضحية باملصالح اخلاصة من أجل الدولة القومية. وامللكية عنده هي النظام الطبيعي ألهنا جتسد الدولة يف زعيم واحد يكون حمل سلطتها ورمز تقاليدها عىل أن يستنري بمجلس ترشيعي يضم ممثيل القوى القومية العقلية. أما اجلمهورية فليست أكمل أنظمة احلكم ألهنا ترسف يف تقدير الفرد وتضحي باملثل العليا يف سبيله. ويرى هيغل: أنه يف كل عرص توجد دولة مهيمنة ومهيأة لتزعم سائر الدول ولتفرض عليها ما بلغت إليه من تقدم يف احلضارة والدولة الغالبة خري من الدولة املغلوبة وغلبتها تعد من حكم اهلل. الربيطاين جريمي بنتام Bentham( 1832-1748()Jeremyم( فيلسوف وقانوين بريطاين ومفكر ليربايل. انطلقت فلسفته من معايشته للمساجني اإلنكليز فنرش كتابه األول:»مقدمة يف ميادين األخالق والترشيع«1789 م ثم نرش كتابه الثاين:»حرروا مستعمراتكم«عام 1793 م وفلسفي ا يرى بنتام: أن اإلنسان بطبيعته يبحث عن اللذة ويتجنب األمل وهذان املتغريان مها املحددان لسلوكه. واللذة عنده ال تقترص عىل اجلنسية منها بل هي الشعور بالسعادة والفرح. أما األمل فهو شعور باألسى واحلزن إضافة إىل أمل اجلسد. ويعمم ذلك من املستوى الفردي إىل املستوى املجتمعي ويتحقق عندما يتسع عدد األفراد واجلامعات يف املجتمع. ولكون اإلنسان أناني ا بطبعه فقد دعا إىل سن القوانني التي ختفف األمل ملنعه من اإلساءة إىل اآلخرين. ولذلك سمي بنتام بفيلسوف اللذة واملنفعة وبمؤسس الفلسفة الليربالية. 27
الربيطاين وليام غودوين Godwin( -1756()William 1836 م( فيلسوف ومؤلف بريطاين. نرش كتابه:»العدالة السياسية«عام 1793 م وآثرها عىل الفضيلة والسعادة ونرش كتابه حوهلا ليوضح العالقة املثالية بني املواطن واحلكومة واملجتمع معارض ا ممارسة السلطة من أي جهة عىل اآلخرين. ويرى: أن مجيع املشكالت يمكن حلها عن طريق البحوث العلمية واملنطقية والعقل هو السلطة التي حتكم احلياة وحتل مشكالهتا. وقد أدار مصنعه للنسيج يف إسكتلندا باستنارة العقل و دعا إىل إطالق يد رجال األعامل يف إدارة أعامهلم وختفيف احلكومات من قيودها عليهم. وي عد من الداعني إىل الفوضوية املثالية ألن الطاعة واإلذعان للقوانني يدفعان الناس إىل التمرد. وهو القائل: إن»األوركسرتا لو تركت بال قائد ألبدع العازفون بعد حتريرهم من قائدها«. الفرنيس أوغست كونت Comte( )Auguste ) 1857-1798 م( هو عامل اجتامع وفيلسوف. أكد دور املالحظة لبناء النظريات االجتامعية. ويعد عند البعض مؤسس الفلسفة الوضعية الداعية إىل دراسة املجتمع بأكمله وكليته Totality ألن له األولوية عىل األجزاء وأن وحدة األجزاء )النظام( هي النمط الطبيعي للوجود اإلنساين ولذلك تتقدم األخالق الوضعية عىل األخالق الفردية واألوىل هي التي تقود إىل تقدم املجتمعات غري أنه يدعو إىل النخب وال يقر مبدأ املساواة بني األفراد وأشهر كتبه الفلسفة الوضعية يف ستة أجزاء نرشت ما بني ) 1842-1830 م(. 28
اإلنجليزي روبرت أوين Owen( 1858-1771()Robertم( مصلح اجتامعي من ويلز وأحد الداعني إىل االشرتاكية واحلركة التعاونية الربيطانية. آمن بأن شخصيات الناس تتشكل من خارجهم وليس من صنع ذواهتم فهم نتاج ملوروثاهتم وبيئاهتم وأن كثري ا من املوروثات جتعل اإلنسان ضعيف ا ومتعصب ا ومنافق ا ودعا إىل اعتامد الورش الصغرية عىل حساب املصانع والرشكات الكبرية لتحقيق التعلم واإلصالح والتدريب. بدأ حياته عامال وأصبح من أشهر املعنيني بصناعة القطن اإلنكليزية ثم دعا إىل التعاونيات االستهالكية التي يؤسسها العامل فقامت احلركة االشرتاكية والنقابية. وقد أقام أوين جتربته بعد حصوله عىل قطعة أرض مجع فيها املجرمني حتت مسمى االنسجام اجلديد Harmony( New ( ليثبت أن احلياة يمكن أن تستقيم بال قيود فكانت صيغة األنارجية الطوباوية الالسلطوية لكنه وجد أن هؤالء ساءت أخالقهم أكثر مما كانوا عليه فعاد إىل إيامنه برورة السلطة. نرش عدة مؤلفات آخرها كتابه:»الثورة يف عقل وممارسة البرش«1849 م. األملاين آرثر شوبنهاور Schopenhauer( )Arthur ) 1860-1788 م( هو مؤلف كتاب: العامل إرادة وفكرة وعقل ولكنه متيز بفلسفته التشاؤمية كام اعترب اجلنس و الغرائز مفتاح السلوك اإلنساين وعده البعض الرشارة التي انطلق منها فرويد يف نظرياته كام سيتضح الحق ا. واألمل عند شوبنهاور انفعال إجيايب وع د مفيد ا لإلنسان واللذة عنده إرضاء حلاجة بصفة مؤقتة ولكنها انفعال سلبي وإن بدت احلاجة إجيابية لكنها من وسائل خداع اإلرادة. وقد اهتم باإلرادة لكوهنا تعمل يف اإلنسان يف أثناء اليقظة 29
ويف أثناء النوم. وما األفعال عنده إال جتليات لإلرادة. وقد نرش كتابه: العامل كإرادة و تصور عام 1819 م واإلرادة يف الطبيعة عام 1836 م ووصف فلسفته بأهنا: استقرائية حتليلية وأهنا ميتافيزيقية لكنها جتريبية. الرويس ميخائيل باكونني Bakunin( )Mikhail )1814-1867 م( من مؤسيس مذهب الفوضوية.Anarchism درس الفلسفة والتاريخ يف جامعة موسكو وسافر إىل باريس وانضم إىل برودن وتأثر بفكره وعاد إىل روسيا لي حكم عليه باإلعدام مرتني ونفي إىل سيبرييا وهرب إىل أوربا ليؤسس األخوة الدولية وعصبة السلم واحلرية وقد نرش كتابه:»الدولة والفوىض«بعد وفاته. رفض يف سنواته األخرية االنضامم إىل التنظيامت الثورية أو تكوينها ألهنا تتسم باملركزية والقيادة الفردية وفض ل التنظيامت غري الرسمية والشخصية والتطوعية واالختيارية ألن الثورات عنده عمل شعبي تلقائي يف ثالثة أرباعه خيال وربعه األخري واقع وممارسة وتنظيم. وقد كره الشيوعية ألهنا نفي للحرية وتركز مجيع قوى املجتمع حتت سلطة الدولة. اإلنجليزي تشارلز داروين Darwin( )Charles )1809-1882 م( مؤلف كتاب:»أصل األنواع«وصاحب نظرية املراحل يف التطور البيولوجي وقد نرشه عام 1859 م بعد أن انتهى من رحلته )البيغل( التي استمرت مخس سنوات مستكشف ا جغرافية البحار واجلبال وجامع ا عينات تارخيية وبيولوجية عن بقايا احليوانات القديمة وبعد أن طاف ما بني سواحل القارات عرب املحيطات فكانت نظريته عن أصل اإلنسان وكفاحه من أجل احلياة واالصطفاء والبقاء لألصلح. 30
وقد أفزع املؤمنني من خمتلف األديان ورجال الفكر بنظريته التي ت رجع اإلنسان إىل أصله التارخيي األقرب إىل القرود. وعىل الرغم مما قيل حول نظريته من نقد ورفض فإنه يعد من املسهمني يف إرساء علم الوراثة واخلرائط الوراثية. وتتلخص نظريته يف االنتقاء الطبيعي يف اآليت: 1 أن صفات الكائنات احلية عىل اختالفها يتم توارثها. 2 أن الطبيعة هلا قدرة عىل انتقاء األفراد األكثر قدرة عىل التكيف وحتمل الضغوط لتعطيهم فرصة أطول للبقاء. 3 أن جينات هؤالء تنتقل إىل أبنائهم وأحفادهم. وبالتايل فإن البقاء سيكون لألصلح Fittest( )Survival of the ومن هذه الداروينية البيولوجية تطورت يف أوربا وأمريكا الداروينية االجتامعية فاملجتمعات هلا خصائص وراثية وختضع للرصاع والتطور العضوي وسيكون البقاء للمجتمعات األفضل )طه 2006 م(. األملاين كارل ماركس Marx( )Karl )1818-1883 م( ويعد مع رفيقه فريدريك إنجلز )1895-1820( من أشد الرافضني للرأساملية والناقدين لفكر آدم سمث االقتصادي فقد طرحا البيان املؤسس للشيوعية )مانفيستو( عام 1848 م ليوضحا التناقضات الفكرية واملخاطر السياسية واالجتامعية للرأساملية لكنهام أكدا أن الرأساملية ستحمل يف رمحها النظام البديل القائم عىل إلغاء امللكية وحتول املجتمع إىل طبقة عاملة واحدة إللغاء الفوارق وعندها ستتفجر الطاقات الكامنة لدى العامل ويتنافسون يف كسبهم ومستويات عيشهم ويصبح لكل حسب حاجته ومن كل حسب طاقته. وحني تنترش الشيوعية يف العامل ست لغى احلكومات وتصبح احلياة 31
تدار باإلرادة احلرة. ومها بذلك يؤمنان بالفلسفة املادية ألن املادة يف فكرمها سابقة للعقل بل إن العقل ذاته هو مادة باألساس. ومع أنه ي صنف ضمن مفكري احلداثة غري أنه انتقدها وعده البعض من أوائل املفكرين ملا بعد احلداثة ملعارضته للذاتية ودعوته للتحرر منها معترب ا ذلك من سامت التقدم الذي ال يتحقق إال بالثورة إلقامة املجتمع االشرتاكي ثم املجتمع الشيوعي وهذه الثورات تتم عرب العمل اجلامهريي وليس بالعقل والعقالنية. األملاين فريدريك نيتشه Nietzsche( )Friedrich ) 1900-1844 م( هو داعية حترر العقل من األديان واألوهام ومن كل الرصوح التي أضفى عليها العقل البرشي قداسته لكونه عقالني ا بفلسفته وإنساني ا بنزعته. وقد عد ه أنصاره ومؤيدوه الفيلسوف امللهم للفكر املعارص املسمى اليوم بام بعد احلداثة. لقد رفض األخالق السائدة ورفض املسيحية وامليتافيزيقية ودعا إىل قيم جديدة يصنعها البرش ألجياهلم وال يرثوهنا من أجدادهم. ناقش بجرأة تشكيل الوعي والضمري ورفض االشرتاكية املنادية باملساواة بني األفراد عىل الرغم من تباينهم وعد الغرية واحلسد مها العضوان املخجالن يف الروح اإلنسانية ونادى باحلرية الفردية والوجودية ألن من ال يملك ثلثي يومه ووقته فهو عبد مهام كان موقعه وعلمه. ويطرح نيتشه آراءه عىل شكل مقدمات أو رسائل قصرية دون تثبيت أو تعليل ألن احلقيقة عنده ال حتتاج برهان ا ونوجز هنا أمهها: أنه ال يثق بأصحاب األنساق والنظريات ويعدهم غري أمناء ويرى أن األنساق تتحقق عىل حساب استبعاد الواقع املراد تفسريه ويعدهم يف كتابه:»أفول األصنام«مراوغني وفضوليني وظل هو يقذف بأفكاره دون نسق واعتربت كالقذائف التي ت صدر محام و حت دث دوي ا. 32
أن املعرفة تتناول العالقة بني الفكر واحلياة. أما القانون الذي حيكمها فهو الصدفة. ويقول: إن فوق كل يشء متتد سامء الصدفة وسامء الرباءة وسامء االضطراب وحيذر من املعرفة التي متارس للسيطرة عىل احلياة والطبيعة والوجود ويرى أن البحث يف املعرفة هو من أجل التخطيط وفرض ما أمكن من االنتظام واحلد من الفوىض التي هي إحدى خصائص طبيعة العامل. أما التخطيط عنده فهو من أفعال التمثيل لألشياء التي تؤثر يف البرش من اخلارج. أن قوتنا العاقلة واملدركة ليست معدة إلدراك التغيري وإنام هتدف إىل تأكيد الثبات واالستقرار الكوين. ويرى نيتشه أن اآلراء األكثر بطالن ا هي أكثرها رضورة لنا وأن الالحقيقة من رشوط احلياة التي حتتاج أخطاء حتى تسمو بنفسها أكثر من حاجتها إىل احلقائق. اهتم بالشعور العفوي لإلنسان وبنوازعه وغرائزه التي تفرغ طاقاته وتبعده عن االغرتاب عن ذاته وتعيد له وجوده وطاقته ومن ثم إرادته التي حياول العقل إيقاف سطوهتا. أن العامل بأرسه هو تعبري عن إرادة القوة ولإلرادة عنده ثالثة عنارص هي: 1 اإلحساسات : وتتكون بفعل العادة وتعرب عن التهيؤ للفعل. 2 األفكار: هي التي تسيطر عىل اإلرادة وتوجهها ألهنا نتاج العقل. 3 االنفعاالت: وهي التعبري عن اإلرغام والضغط واحلركة واملقاومة. وتأكيده عىل إرادة القوة واحلياة هو الذي جعله من خصوم احلداثة واألقرب إىل أنصار ما بعدها. )الشايب 2005 م ص 193(. 33
األمريكي وليام جيمس James( )William ) 1910-1842 م( فيلسوف وعامل نفس أمريكي. حصل عىل الدكتوراة من جامعة هارفارد وعني فيها أستاذ ا للفسيولوجيا ثم لعلم النفس. وقد توجه نحو الفلسفة الربامجاتية بعد سامعه حمارضة ألقاها تشارلز بريس )1914-1839( الذي يعد مؤسسها ومبتكر فكرهتا ومصطلحها وبعد نرشه مقالة عنها عام 1878 م عنواهنا: كيف نوضح أفكارنا يقول فيها:»إن الواقع يفرض عىل البرش معنى احلقيقة و ليس هناك حقيقة ابتدائية تفرض نفسها عىل الواقع«. وعرب كتابه الربامجاتية يقول جيمس: إنه ال يوجد للحقيقة وجود عىل غرار وجود األشياء فاحلقيقة هي منهج للتفكري والعمل والسلوك وقد تتحول حقيقة اليوم لتصبح ومه ا يف الغد. وعليه ال يعرتف بدوام واستقرار احلقائق املطلقة فهي تصبح خاطئة بتغري سياقاهتا. وكانت جتربة شفائه من املرض قد قادته إىل أمهية العمل وترجيح االجتهاد بالعمل بدال من التأمل ونذكر من أقواله )عويضة 1993 م (:»أن الربامجاتية هي اهلواء الطلق وأن إمكانات الطبيعة املتاحة هي ضد املوثوقية واليقينية اجلازمة وادعاء النهائية«. أن املنفعة العلمية هي املقياس لصحة األشياء وأن الفكرة تكون صادقة عندما تكون مفيدة وأن النفع والرر مها اللذان حيددان قبول األفكار أو رفضها. وي عر ف املوقف الربامجايت بأنه:»املوقف الذي يرصف النظر عن األشياء األوىل وعن املبادئ واملقوالت والفرضيات ويتجه إىل األشياء واآلثار والنتائج وما يرتب عليها من منافع«وقد أطلق عليها كلمة Cash لتعرب عام يتم استالمه فعال. 34
وقد أكمل الفيلسوف األمريكي جون ديوي Dewey( )John )1859-1952 م( مسرية الفلسفة الربامجاتية بعد وليام جيمس حتى منتصف القرن العرشين مؤكد ا أن العقل ليس أداة للمعرفة وإنام أداة لتطوير احلياة وتنميتها. وبذلك دافع جون دوي عن النقد الذي اهتمت به الربامجاتية وكأهنا انتهازية وأنانية ومنفعية فهي ال يقصد هبا اتباع احلاجات الفردية واملادية واملصلحية حرص ا بل تشمل كل ما يسهم يف تآلف وتقدم املجتمعات. ولذلك تعد مبادئ وقيم األديان صحيحة متام ا يف نظر الربامجاتية طاملا أهنا نافعة وحتقق الرضا والسعادة وتقود إىل منافع أكرب وأحدث ( احليدري 2012 م(. الفرنيس إميل دوركايم Durkheim( )Emile ) 1917-1858 م( عامل اجتامع جمدد. أرسى منهجيته عىل النظرية والتجريب مع ا ووضع بعض القواعد ملنهج البحث االجتامعي ملواجهة املشكالت والظواهر االجتامعية مركز ا عىل مشكلة االنتحار بوجه خاص. يدعو إىل توظيف العلم من أجل العلم وحل مشكالت املجتمعات بعيد ا عن السفسطة واجلدل واملقوالت الغامضة. وقد اهتم بمشكالت التصنيع ويعد من أشد الداعني إىل تقسيم العمل بعد أن كتب أطروحته للدكتوراة حول نتائج تقسيم األعامل يف املجتمع الصناعي. النمساوي سيغموند فرويد Freud( )Sigmund ) 1939-1856 م( هو صاحب النظرية املفرسة للشخصية بقواها الثالث: اهلو األنا واألنا األعىل. وهو رائد مدرسة التحليل النفيس التي ترى أن هناك كثري ا من املفاهيم والرغبات املغروسة يف غرائز اإلنسان وأعامقه وتؤثر يف سلوكه من حيث ال يشعر وأن تعارض هذه املفاهيم مع رغباته تتسبب يف إحباطه. 35
ويرى فرويد أن اجلنس وراء سلوكيات البرش وحني حتول قيم املجتمع دون إشباعها حتدث األمراض النفسية والعقد. استخدم العالج النفيس ملعرفة األمراض من خالل الغوص يف الالشعور. هاجر فرويد إثر احلرب العاملية الثانية إىل بريطانيا لكنه تويف بعد أشهر من هجرته عن عمر ناهز 82 عام ا بعد إصابته بالرسطان بسبب إدمانه عىل التدخني وقد حر ق النازيون مكتبته كام حرمت الدول االشرتاكية طريقة التحليل النفيس ومنعت تدريسها أو تطبيقها يف العالج. وعىل الرغم من إدراج فرويد ضمن مفكري احلداثة فإن دعوته إىل البحث عن الذات الفاعلة خارج دائرة الذات الواعية لتسهم يف التمرد عىل ما هو قائم وشائع ورفضه الصلة بني الفرد واملجتمع وما يتبعها من تقمصات تؤدي إىل اغرتاب اإلنسان عن حميطه ما جعل البعض حيسبه من األنصار األوائل ملا بعد احلداثة. األمريكي بورهوس فريدريك سكنر) Skinner )Burrhus Frederic 1904( 1990 م( عامل نفس سلوكي. واصل عرب مسريته ما قام به كل من واتسن ثم باف لوف ليطور نظريته يف التعلم السلوكي عرب التعزيز واالستجابة الرش طية واإلجرائية فالتعزيز عنده هو امليل أو النزعة لكي يتكرر الفعل النافع والناجح. أما اإلرشاط اإلجرائي فهو التعلم دون حتديد مثري. والسلوك عنده يتشكل كام يشكل اإلنسان كتلة الطني ليخرج منها متثاال وسلوك البرش هو نتيجة لعمليات تشكيلية مستمرة وسلوكنا يف الغالب خيضع للحتمية ومرد ذلك هي الظروف البيئية املحيطة وآليات التعلم وما يرافقها من معززات. وهو بذلك ال يكلف نفسه للغوص يف باطن اإلنسان ليسرب غوره ويستبطن 36
ما يف داخله عرب األحالم والتحليالت النفسية كام فعل فرويد بل يتجاوز الصندوق املقفل مكتفي ا بالسلوك الذي خيرج منه وسبل تغيريه والتحكم والتنبؤ به. أول كتبه كان حول سلوك الكائنات احلية عام 1938 م ثم روايته Walden Two عام 1961 م وهي عبارة عن تصور افرتايض وطوباوي لقرية أمريكية يعيش أفرادها وفق نظرية االشرتاط اإلجرائي وتوظف املعززات اإلجيابية مع أقل املعوقات والعقوبات. ثم كتابه تكنولوجيا التعلم عام 1968 م وكتابه ما وراء احلرية والكرامة عام 1971 م. شغل منصب أستاذ كريس إدجر بريس Chair( )Edgar Pierce بجامعة هارفارد حتى تقاعده عام 1974 م وع د أشهر عامل نفس عىل مدار القرن العرشين بعد نرشه 21 كتاب ا و 180 مقالة. ويف أواخر أعامله حذر من حتول التعزيز إىل رشوة أو أعامل غري أخالقية تؤدي إىل الرر والفساد ولو عىل املدى البعيد ورفع العقاب اجلسدي باملدارس وألغى عقوبة اإلعدام يف بعض الواليات األمريكية. وانتهى سكنر إىل القول: إن اإلنسان احلر ذا اإلرادة التامة هو مفهوم تقليدي وجمرد خيال ال حظ له عىل أرض الواقع. 4. 1 خالصة الفكر احلداثي ومنطلقاته إن املتأمل يف منجزات العلامء والفالسفة الذين متت اإلشارة إليهم وعىل الرغم من حمدودية العدد الذي عرضناه يمكنه أن يقف عىل أمهية ما حتقق خالل القرون األربعة لعرص احلداثة وستكون الصورة أكرب وأعظم كلام اتسعت دائرة هؤالء أو تعمقنا يف منجزاهتم التي شملت كل مناحي احلياة وجماالهتا الفلسفية والسياسية واالقتصادية واالجتامعية واإلنسانية. والذي قصدناه من اإلشارة إليهم ليس جمرد التعريف بأشخاصهم وختصصاهتم وإن كانت هلا أمهيتها لكن األهم هنا أن يتم الربط بني 37
طروحاهتم واستنباط ما يمكن استخالصه منها جمتمعة لرسم الصورة الكلية ملا عكسته مرحلة الفكر احلداثي من منطلقات و توجهات والتي ستكون بدورها املحاور الرئيسة لبزوغ فكر ما بعد احلداثة. وفيام يأيت عرض رسيع ألهم هذه املنطلقات والتوجهات الفكرية والفلسفية والعلمية للفكر احلداثي ( مصطفى 2011 م(: أوال : أهنم مجيع ا كر سوا أنفسهم الكتساب املعرفة وإثرائها إيامن ا منهم بأهنا ممكنة غري أهنم اختلفوا يف طرق ومناهج اكتساهبا فكانت اإلبستمولوجيا هي امليدان الذي تناول نظريات املعرفة فحظيت باالهتامم وربام عىل حساب األنطولوجيا التي شاعت عند اليونان والرومان وغريهم. ثاني ا: تبلور املدارس الفلسفية املعرفية فكانت املثالية واملادية والواقعية والتجريبية والوضعية تتبارى يف حتديدها ملصادر املعرفة وطرق توليدها وإثباهتا أو رفضها. وقد أسهمت مجيعها يف إعالء منزلة اإلنسان ومنزلة العقل وقللت من دور األديان والعقائد واأليديولوجيات وهيبتها وسلطاهنا وتبلورت الدعوة إىل فصل الدين عن الدولة ومهدت للفكر العلامين الوضعي. وقد أصبحت احلداثة بمثابة احلد الفاصل بني مرحلتني وفصم االئتالف والوحدة بني السامء واألرض عىل حد قول ماكس فيري. فاحلداثة بوجه عام انحازت إىل األرض والواقع واجلسد وحد ت من اإليامن بالغيبيات وبالروح واألخالق واملوروثات. ثالث ا: أسهمت احلداثة يف بلورة احلقول العلمية الطبيعية والفلكية واالجتامعية بعد أن كانت ت درس وتتناقل يف إطار الفلسفة كام أولت االهتامم 38
بالبحث العلمي وبالتجارب بوصفها أداة للتغيري واالكتشاف والتقدم نحو حياة أفضل فمكنت اإلنسان من فهم الكون والطبيعة وسيطرته عىل بعض متغرياهتا البيئية بام حيسن من أنامط العيش والرخاء. )الشايب 2005 م(. رابع ا: لقد أولت احلداثة وفكرها اهتامم ا خاص ا باملؤسسات والبنى السياسية واالجتامعية واالقتصادية واإلدارية التي حظيت بالتنظري والتأسيس للمبادئ القانونية واألسس الفكرية لقيام النظم السياسية واحلكومات واألساليب األفضل لتسيري املنظامت الصناعية واخلدمية ودعت إىل توظيف ثامر العقل والبحث والتجريب إلدارة الناسشئون املجتمعات بام حيقق املصلحة للبرشية مجعاء. غري أهنا أضفت عىل بعض معارفها ونظمها وهياكلها التي قدمتها احلتمية واخلطية والعقالنية أكثر مما حتتمل فكانت هذه جمتمعة املربر لظهور فكر ما بعد احلداثة الذي سيتم تناوله يف الفصل القادم.)روبريتس 2004 م(. وختاما هلذا الفصل ن ذك ر بمقولة الناقد )لويد سبنرس 2005 م( التي حيذر فيها من حماوالت االنخراط يف حتديد تعريفات هنائية وخصائص حمددة لفكر احلداثة واختاذها مرجعية صاحلة للتعميم فمصطلحات كهذه يتعذر تأطريها وإال تدخل أصحاهبا يف متناهية ال حدود هلا لكون منطلقاهتا تغطي جماالت متعددة ومتنوعة ومتباينة من املامرسة اإلنسانية واحلضارية عىل الصعيد املادي والثقايف واالقتصاد. ولذلك اقترصنا تناوهلا يف دراستنا هذه عىل البعد املؤسسايت والفكر التنظيمي دون غريه من األبعاد واملجاالت. 39
الفصل الثاين فلسفة ما بعد احلداثة: منطلقاهتا ومفكروها
. 2 فلسفة ما بعد احلداثة: منطلقاهتا ومفكروها 1. 2 النشأة و التطور عىل الرغم من كثرة ما كتب عن نشأة املصطلح مل هيتد أحد إىل حتديد مصدره وبداية انطالقته فهناك من يعيد املصطلح إىل املؤرخ الربيطاين أرنولد توينبي ) 1975-1889 م( صاحب نظرية التحدي واالستجابة وهناك من يربطه بالشاعر الناقد األمريكي تشارلس أولسن) 1910 1970 م( ولنتاجه األديب خالل اخلمسينيات وآخرون يرجعونه إىل ليزيل فيدلر ) 2003-1917 م( األديب والقايض والناقد. ومن هنا يأيت اللبس واالختالف يف تصنيف بعض الكتاب والفالسفة عىل أهنم ما بعد حداثيني مع أهنم عايشوا بعض ا من مرحلة احلداثة لكن املصطلح مل يكن مطروح ا بعد. ويظل أيض ا من يدعي بقوة أن عرص احلداثة مل ينته بعد وأن مرشوعه يواصل سعيه يف حتقيق أهدافه. وهناك من يربط نشأة املصطلح»ما بعد احلداثة«بفلسفة التفكيك والتقويض وحتطيم املقوالت املركزية الكربى التي هيمنت عىل الثقافة الغربية بدء ا من أفالطون وانتهاء هبيغل ونيتشه اللذين يعدان حلقة الفصل بني املفكرين أو نقطة االفرتاق بني الفلسفتني احلداثة وما بعدها كام تزامن ظهور ما بعد احلداثة مع ظهور احلركات الالعقالنية كالرسيالية و الوجودية والفرويدية والعبثية والعدمية ما جعلها حركات مناقضة و مضادة لفلسفة احلداثة. أما بدايات ظهور وتطبيق ما بعد احلداثة فقد كانت يف جماالت التصميم والعامرة واهلندسة املدنية ثم انتقلت إىل األدب و الفن ومنهام إىل 43
العلوم اإلنسانية واملعارف االجتامعية واليوم تغزو مجيع الفروع املعرفية وبال استثناء حتى قيل: إننا أمام حركة عامة ملا بعد احلداثة وحركات فرعية مشتقة منها. )مصطفى 2011 م(. وإمجاال يمكن القول بأن بداياهتا األوىل قد ظهرت بعد احلرب العاملية الثانية وإفرازاهتا يف خمتلف جماالت احلياة قد تسارعت مع النصف الثاين من القرن العرشين غري أن أدبياهتا وفلسفاهتا ونظرياهتا قد تبلورت خالل العقود األربعة األخرية ( 1980 2015 م(. 2. 2 ماهيتها ومنطلقاهتا إن املصطلحات الكبرية واجلديدة تظل غالب ا مستعصية عىل التعريفات القصرية والبليغة ومصطلح ما بعد احلداثة باألخص ال يزال يف مرحلة النشوء والتطور وال يزال أمامه كثري من الوقت حتى تتبلور منطلقاته وتتكامل أبعاده. ومع ذلك فان البدء بتعريفات موجزة ورسيعة قد حيقق الغرض للدارسني والناقدين اجلدد ممن يرغبون دخول عامل ما بعد احلداثة. وأول مجلة تقال هي: إن مفهوم ما بعد احلداثة نشأ كردة فعل ملصطلح احلداثة وباألخص مصطلحات احلداثة التي ركزت عىل العقالنية واخلطية والطهرانية سواء اقرتنت هذه املفاهيم بعامل الزمن والتقدم أم بالتفكري والتحول لتحل حملها مفاهيم جديدة و بديلة هي: التعقيد والتناقض والغموض والتنوع والتواصل )الطائي أبو رمحة 2011 م(. وقد بدأت مثل هذه املصطلحات تشق طريقها خالل عقد الستينيات والسبعينيات من القرن العرشين ثم بانت وتكشفت وتدفقت مع عقد التسعينيات لتصبح نسق ا وصورة جديدة للحالة الذهنية الباحثة عن األفضل 44
واألكثر حداثة ومعارصة. ونذكر عىل سبيل املثال ال احلرص مصطلح ما بعد الصناعة الذي ظهر بعد أن استكملت الثورة الصناعية أبعادها واكتشافاهتا يف خمتلف املجاالت وبدأت مرحلة ما بعد الصناعة لتدعو إىل عرص املعلومات والشبكات وإىل اقتصادات املعرفة فمجتمعات اليوم توصف بأهنا معرفية ومعلوماتية وهي ترقى وتعلو عىل الصناعات الثقيلة كاملعدات واألدوات واألجهزة التي يتم إنتاجها آلي ا وعرب خطوط إنتاج قلام يتدخل اإلنسان يف حركتها. أما املعلومات واملعارف فهي منظومات وبنى ذات داللة ومعنى وحتتاج إىل جتميع ومعاجلة البيانات واألرقام واإلحصاءات من أجل التوصل إىل املعلومات التي تدخل إىل الربجميات الختاذ القرارات التي يعتمد عليها يف الرقي بنمط العيش وىف الوقت نفسه احلفاظ عىل الثروات الطبيعية ونظافة البيئة حرص ا عىل مصالح األجيال القادمة. ومن شأن املرحلة تلك أن تذكي االكتشافات واالخرتاعات وجودة اخلدمات من خالل نظريات وبرجميات جديدة وصوال إىل سياسات وإسرتاتيجيات مستقبلية واسترشافية كبديل للمعاجلات اجلزئية واإلجرائية التي تعقب وقوع األزمات والكوارث واألمراض واألوبئة وهو ما دأبت عليه املراحل السابقة. ومصطلح ما بعد احلداثة ال يعني عند البعض هناية لعرص احلداثة بل هو قائم عىل استمرارها ووجود منطلقاهتا وتطبيقاهتا وبالتايل التوجه نحو نقدها والتشكيك فيها ومن ثم طرح البدائل هلا. ونظر ا لعمرها القصري فإهنا اليوم تعيش مرحلة التشكيك وكشف الثغرات وأوجه النقص والقصور. أما البدائل والتطورات ملا بعد احلداثة فهي يف طور التشكيل ومل حتظ بعد باإلمجاع أو القبول. 45
وسنوجز هنا أهم منطلقات ما بعد احلداثة وأهم التصورات والتطلعات التي تطمح يف بنائها وإحالهلا عرب العقود القادمة )محداوي 2012 وطفة 2010 م(: 1 إن من منطلقاهتا العامة: دعوهتا إىل الوعي الذايت وحتريرها ورفضها مركزية العقل التسلطية ومعقولية الذاكرة الواحدة والثبات واالستقرار واملعيارية والثنائية. وبدال من ذلك فإهنا تدعو إىل االنفتاح عىل النتاجات العقلية ملختلف الثقافات واحلضارات وإىل تشظي القصة الرسدية الواحدة والكلية إىل جمموعة قصص صغرى ونظرهتا إىل اللغة باعتبارها أداة إلنتاج املعرفة. وهي بذلك حتل السيولة واملرونة واالنسيابية حمل اجلمود والصالبة يف بناء املعرفة وتأطريها وحتل التعدديات حمل الثنائيات. 2 إهنا تفتح األبواب مرشعة أمام اإلضافات والبدائل ما دامت املعرفة من وجهة نظر ما بعد احلداثة ال تزال ناقصة وغامضة وحمدودة وموضع شك وأن مناهجها ال تزال غري م ع و ل عىل صدقها وثباهتا وستظل كذلك لعقود طويلة. وهي بذلك ال تسلم بوجود كليات أو مبادئ هنائية بل تظل فرضيات حتتمل الصحة واخلطأ وال متيز بني ما هو ثابت وما هو متحول فجميع األفكار حتت الصريورة. 3 وإذا كانت مصطلحات احلداثة تدور حول: العقل احلقيقة اإلنسان الذات احلرية التقدم واملركزية واخلطية والسببية فإن مصطلحات ما بعد احلداثة تتمثل يف: الصدفة الفوىض التخريب التقويض اإلهناك الصريورة التشظي والنسبية وغريها من املصطلحات الغريبة. 46